فصل: من يختصه الله بفضله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 وهكذا سائر من يفضله اللّه ـ تعالى ـ فإنه يفضله بالأسباب التي يستحق بها التفضيل بالجزاء،كما يخص أحد الشخصين بقوة ينال بها العلم،وبقوة ينال بها اليقين والصبر والتوكل والإخلاص،وغير ذلك مما يفضله اللّه به،وإنما فضله في الجزاء بما فضل به من الإيمان، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏72،73‏]‏، وقال في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏124‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏75‏]‏، وقال‏:‏‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏14‏]‏

/وقد بين في مواضع أسباب المغفرة وأسباب العذاب، وكذلك يرزق من يشاء بغير حساب، وقد عرف أنه قد يخص من يشاء بأسباب الرزق‏.‏

وإذا كان من الإيمان ما يعجز عنه كثير من الناس، ويختص اللّه به من يشاء، فذلك مما يفضلهم اللّه به، وذلك الإيمان ينفي عن غيرهم، لكن لا على وجه الذم بل على وجه التفضيل، فإن الذم إنما يكون على ترك مأمور أو فعل محظور‏.‏ لكن على ما ذكره أبو طالب، يقال‏:‏ فمثل هؤلاء مسلمون لا مؤمنون باعتبار،ويقال‏:‏ إنهم مؤمنون باعتبار آخر، وعلى هذا ينفي الإيمان عمن فاته الكمال المستحب، بل الكمال الذي يفضل به على من فاته، وإن كان غير مقدور للعباد بل ينفي عنه الكمال الذي وجب على غيره، وإن لم يكن في حقه لا واجباً ولا مستحباً، لكن هذا لا يعرف في كلام الشارع، ولم يعرف في كلامه إلا أن نفي الإيمان يقتضي الذم حيث كان، فلا ينفي إلا عمن له ذنب، فتبين أن قوله‏:‏‏(‏أو مسلم‏)‏ توقف في أداء الواجبات الباطنة والظاهرة كما قال جماهير الناس‏.‏

ثم طائفة يقولون‏:‏ قد يكون منافقاً ليس معه شيء من الإيمان، وهم الذين يقولون‏:‏ الأعراب المذكورون منافقون ليس معهم من الإيمان شيء، وهذا هو القول الذي نصره طائفة، كمحمد بن نصر، والأكثرون يقولون‏:‏ بل هؤلاء لم يكونوا من المنافقين الذين لا يقبل منهم شيء من أعمالهم، وإن كان فيهم شعبة نفاق، بل كان معهم تصديق يقبل معه منهم ما عملوه للّه؛ ولهذا جعلهم مسلمين؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏17‏]‏، كما /قالوا مثل ذلك في الزاني والسارق وغيرهما ممن نفى عنه الإيمان، مع أن معه التصديق‏.‏ وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم‏.‏

وأبو طالب جعل من كان مذموماً، لترك واجب، من المؤلفة قلوبهم الذين لم يعطوا شيئًا، وجعل ذلك الشخص مؤمناً غيره أفضل منه، وأما الأكثرون فيقولون‏:‏ إثبات الإسلام لهم دون الإيمان كإثباته لذلك الشخص كان مسلماً لا مؤمنًا كلاهما مذموم، لا لمجرد أن غيره أفضل منه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً‏)‏ ولم يسلب عمن دونه الإيمان، وقال تعالى‏:‏‏{‏ِلَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏10‏]‏‏.‏

فأثبت الإيمان للفاضل والمفضول، وهذا متفق عليه بين المسلمين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر‏)‏،وقال لسعد ابن معاذ لما حكم في بني قريظة‏:‏‏(‏لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرْقٍعَة‏)‏،وكان يقول لمن يرسله في جيش أو سرية‏:‏‏(‏إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم اللّه، فلا تنزلهم على حكم اللّه، فإنك لا تدري ما حكم اللّه فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك‏)‏‏.‏ وهذه الأحاديث الثلاثة في الصحيح، وفي حديث سليمان ـ عليه السلام ـ‏:‏‏(‏وأسألك حكمًا يوافق حكمك‏)‏‏.‏

فهذه النصوص وغيرها تدل على ما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم/ بإحسان‏:‏ أن أحد الشخصين قد يخصه اللّه باجتهاد يحصل له به من العلم ما يعجز عنه غيره فيكون له أجران، وذلك الآخر عاجز له أجر ولا إثم عليه، وذلك العلم الذي خص به هذا، والعمل به باطناً، وظاهراً زيادة في إيمانه، وهو إيمان يجب عليه، لأنه قادر عليه، وغيره عاجز عنه فلا يجب‏.‏ فهذا قد فضل بإيمان واجب عليه وليس بواجب على من عجز عنه‏.‏

وهذا حال جميع الأمة فيما تنازعت فيه من المسائل الخبرية والعملية، إذا خص أحدهما بمعرفة الحق في نفس الأمر مع اجتهاد الآخر وعجزه، كلاهما محمود مثاب مؤمن، وذلك خصه اللّه من الإيمان الذي وجب عليه بما فضله به على هذا‏.‏ وذلك المخطئ لا يستحق ذماً ولا عقاباً، وإن كان ذاك لو فعل ما فعل ذم وعوقب، كما خص اللّه أمة نبينا بشريعة فضلها به، ولو تركنا مما أمرنا به فيها شيئًا، لكان ذلك سبباً للذم والعقاب، والأنبياء قبلنا لا يذمون بترك ذلك، لكن محمد صلى الله عليه وسلم فضله اللّه على الأنبياء، وفضل أمته على الأمم من غير ذم لأحد من الأنبياء، ولا لمن اتبعهم من الأمم‏.‏

وأيضاً، فإذا كان الإنسان لا يجب عليه شيء من الإيمان إلا ما يقدر عليه،وهو إذا فعل ذلك كان مستحقاً لما وعد اللّه به من الجنة،فلو كان مثل هذا يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً،لوجب أن يكون من أهل الوعد بالجنة من يسمى مسلماً لامؤمناً كالأعراب، وكالشخص الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أو مسلم‏)‏ وكسائر من نفى عنه الإيمان مع أنه مسلم، كالزاني، والشارب،/والسارق، ومن لا يأمن جاره بوائقه، ومن لا يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، وغير هؤلاء، وليس الأمر كذلك‏.‏

فإن اللّه لم يعلق وعد الجنة إلا باسم الإيمان، لم يعلقه باسم الإسلام مع إيجابه الإسلام، وإخباره أنه دينه الذي ارتضاه، وأنه لا يقبل ديناً غيره، ومع هذا فما قال‏:‏ إن الجنة أعدت للمسلمين، ولا قال‏:‏ وعد اللّه المسلمين بالجنة، بل إنما ذكر ذلك باسم الإيمان، كقوله‏:‏‏{‏وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏72‏]‏، فهو يعلقها باسم الإيمان المطلق، أو المقيد بالعمل الصالح، كقوله‏:‏‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏7، 8‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏25‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏277‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏173‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏175‏]‏،وقوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏57‏]‏، وفي الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏122‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 57‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏9‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 48‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 42‏]‏، والآيات في هذا المعنى كثيرة‏.‏

فالوعد بالجنة، والرحمة في الآخرة، وبالسلامة من العذاب،علق باسم الإيمان المطلق، والمقيد بالعمل الصالح، ونحو ذلك،وهذا ـ كما تقدم ـ أن المطلق يدخل فيه فعل ما أمر اللّه به ورسوله،ولم يعلق باسم الإسلام‏.‏فلو كان من أتى من الإيمان بما يقدر عليه وعجز عن معرفة تفاصيله قد يسمى مسلماً لا مؤمنًا،لكان من أهل الجنة، وكانت الجنة يستحقها من يسمى مسلماً وإن لم يسم مؤمناً، وليس الأمر كذلك، بل الجنة لم تعلق إلا باسم الإيمان، وهذا ـ أيضاً ـ مما استدل به من قال‏:‏ إنه ليس كل مسلم من المؤمنين الموعودين بالجنة؛ إذ لو كان الأمر كذلك لكان وعد الجنة معلقاً باسم الإسلام، كما علق باسم الإيمان وكما علق باسم التقوى واسم البر، في مثل قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏54‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ‏}‏ ‏[‏الانفطار‏:‏13‏]‏، وباسم أولياء اللّّه، كقوله‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏62‏:‏ 64‏]‏، فلما لم يجر اسم الإسلام هذا المجرى، علم أن مسماه ليس ملازماً لمسمى الإيمان كما يلازمه اسم البر والتقوى وأولياء اللّه، وأن اسم الإسلام يتناول من هو من أهل الوعيد، وإن كان اللّه يثيبه على طاعته، مثل أن يكون في قلبه إيمان، ونفاق يستحق به العذاب، فهذا يعاقبه اللّه ولا يخلده في النار؛ لأن في قلبه مثقال ذرة أو أكثر من مثقال ذرة من إيمان‏.‏

/ وهكذا سائر أهل الكبائر إيمانهم ناقص، وإذا كان في قلب أحدهم شعبة نفاق عوقب بها إذا لم يعف اللّه عنه، ولم يخلد في النار، فهؤلاء مسلمون وليسوا مؤمنين ومعهم إيمان‏.‏ لكن معهم ـ أيضاً ـ ما يخالف الإيمان من النفاق، فلم تكن تسميتهم مؤمنين بأولى من تسميتهم منافقين، لا سيما إن كانوا للكفر أقرب منهم للإيمان، وهؤلاء يدخلون في اسم الإيمان في أحكام الدنيا، كما يدخل المنافق المحض وأولى؛ لأن هؤلاء معهم إيمان يدخلون به في خطاب اللّه بـ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ‏}‏، لأن ذلك أمر لهم بما ينفعهم ونهى لهم عما يضرهم، وهم محتاجون إلى ذلك، ثم إن الإيمان الذي معهم إن اقتضى شمول لفظ الخطاب لهم فلا كلام، وإلا فليسوا بأسوأ حالاً من المنافق المحض، وذلك المنافق يخاطب بهذه الأعمال وتنفعه في الدنيا ويحشر بها مع المؤمنين يوم القيامة، ويتميز بها عن سائر الملل يوم القيامة كما تميز عنهم بها في الدنيا، لكن وقت الحقيقة يضرب ‏{‏بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏13‏:‏ 15‏]‏، وقد قال تعالى‏:‏ {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏145، 146‏]‏‏.‏

فإذا عمل العبد صالحاً للّه،فهذا هوالإسلام الذي هو دين اللّه، ويكون/معه من الإيمان ما يحشر به مع المؤمنين يوم القيامة،ثم إن كان معه من الذنوب ما يعذب به عذب وأخرج من النار،إذا كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان وإن كان معه نفاق؛ولهذا قال تعالى في هؤلاء‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏146‏]‏، فلم يقل‏:‏ إنهم مؤمنون بمجرد هذا؛ إذ لم يذكر الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله، بل هم معهم، وإنما ذكر العمل الصالح وإخلاصه للّه، وقال‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ فيكون لهم حكمهم‏.‏

وقد بين تفاضل المؤمنين في مواضع أخر، وأنه من أتى بالإيمان الواجب استحق الثواب، ومن كان فيه شعبة نفاق وأتى بالكبائر، فذاك من أهل الوعيد، وإيمانه ينفعه اللّه به، ويخرجه به من النار ولو أنه مثقال حبة خردل لكن لا يستحق به الاسم المطلق المعلق به وعد الجنة بلا عذاب‏.‏ وتمام هذا أن الناس قد يكون فيهم من معه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب الكفر أو النفاق، ويسمى مسلماً، كما نص عليه أحمد‏.‏

وتمام هذا أن الإنسان قد يكون فيه شعبة من شعب الإيمان، وشعبة من شعب النفاق، وقد يكون مسلماً وفيه كفر دون الكفر الذي ينقل عن الإسلام بالكلية، كما قال الصحابة ـ ابن عباس وغيره ـ‏:‏ كفر دون كفر‏.‏ وهذا قول عامة السلف، وهو الذي نص عليه أحمد وغيره ممن قال في السارق، والشارب، ونحوهم ممن قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏إنه ليس بمؤمن‏)‏ أنه يقال لهم‏:‏ مسلمون لا مؤمنون، واستدلوا بالقرآن والسنة على نفي اسم الإيمان مع إثبات اسم الإسلام، وبأن الرجل قد يكون مسلماً ومعه كفر /لا ينقل عن الملة، بل كفر دون كفر، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏44‏]‏ قالوا‏:‏ كفر لا ينقل عن الملة، وكفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم‏.‏

وهذا ـ أيضاً ـ مما استشهد به البخاري في صحيحه فإن كتاب ‏[‏الإيمان‏]‏ الذي افتتح به ‏[‏الصحيح‏]‏ قرر مذهب أهل السنة والجماعة، وضمنه الرد على المرجئة، فإنه كان من القائمين بنصر السنة والجماعة مذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان‏.‏

وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين؛ لأنهم استسلموا ظاهراً، وأتوا بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة، والزكاة الظاهرة، والحج الظاهر، والجهاد الظاهر، كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر، واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏145‏]‏ وفيها قراءتان‏:‏ دَرْك ودَرَك قال أبو الحسين بن فارس‏:‏ الجنة درجات والنار دركات، قال الضحاك‏:‏ الدرج‏:‏ إذا كان بعضها فوق بعض‏.‏ والدرك‏:‏ إذا كان بعضها أسفل من بعض، فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، كما قال في الحديث الصحيح‏:‏‏(‏إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم سلوا اللّه لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد اللّه، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم/ القيامة‏)‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏وأرجو أن أكون‏)‏ مثل قوله‏:‏ ‏(‏إني لأرجو أن أكون أخشاكم للّه وأعلمكم بحدوده‏)‏ ولا ريب أنه أخشى الأمة للّه، وأعلمهم بحدوده‏.‏

وكذلك قوله‏:‏‏(‏اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة،فهي نائلة إن شاء اللّه من مات لا يشرك باللّه شيئاً‏)‏،وقوله‏:‏‏(‏إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة‏)‏ وأمثال هذه النصوص،وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان،كما نذكره في موضعه‏.‏

والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهراً تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلماً؛ إذ ليس هو دون المنافق المحض، وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان، بل اسم المنافق أحق به، فإن ما فيه بياض وسواد، سواده أكثر من بياضه، هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏167‏]‏، وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد، لم يكن ـ أيضاً ـ من المؤمنين الموعودين بالجنة، وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد، ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه‏.‏

وقال محمد بن نصر‏:‏ وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال‏:‏ من أتى هذه الأربعة‏:‏ الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنُّهْبَة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه، أو مثلهن أو فوقهن، فهو مسلم ولا أسميه/مؤمنًا،ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمناً ناقص الإيمان، فإن صاحب هذا القول يقول‏:‏ لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان، نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة، وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر، لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر، فما أتى بالإيمان الواجب، ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها، ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك‏.‏

 وأما الذين نفى عنهم الرسول الإيمان، فننفيه كما نفاه الرسول، وأولئك وإن كان معهم التصديق وأصل الإيمان فقد تركوا منه ما استحقوا لأجله سلب الإيمان، وقد يجتمع في العبد نفاق وإيمان، وكفر وإيمان،فالإيمان المطلق عند هؤلاء ما كان صاحبه مستحقاً للوعد بالجنة‏.‏

وطوائف أهل الأهواء من الخوارج، والمعتزلة، والجهمية، والمرجئة، كَرَّاميهم، وغير كرَّاميهم يقولون‏:‏ إنه لا يجتمع في العبد إيمان ونفاق، ومنهم من يدعي الإجماع على ذلك،وقد ذكر أبو الحسن في بعض كتبه الإجماع على ذلك، ومن هنا غلطوا فيه وخالفوا فيه الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لهم بإحسان مع مخالفة صريح المعقول، بل الخوارج والمعتزلة طردوا هذا الأصل الفاسد، وقالوا‏:‏ لا يجتمع في الشخص الواحد طاعة يستحق بها الثواب، ومعصية يستحق بها العقاب، ولا يكون الشخص الواحد محموداً من وجه مذمومًا من/ وجه، ولا محبوباً مدعواً من وجه مسخوطاً ملعوناً من وجه، ولا يتصور أن الشخص الواحد يدخل الجنة والنار جميعاً عندهم؛ بل من دخل إحداهما لم يدخل الأخرى عندهم؛ ولهذا أنكروا خروج أحد من النار أو الشفاعة في أحد من أهل النار‏.‏ وحكى عن غالية المرجئة أنهم وافقوهم على هذا الأصل، لكن هؤلاء قالوا‏:‏ إن أهل الكبائر يدخلون الجنة ولا يدخلون النار مقابلة لأولئك‏.‏

وأما أهل السنة والجماعة والصحابة، والتابعون لهم بإحسان، وسائر طوائف المسلمين من أهل الحديث والفقهاء وأهل الكلام من مرجئة الفقهاء والكَرَّامية والكُلاَّبية والأشعرية، والشيعةـ مرجئهم وغير مرجئهم ـ فيقولون‏:‏ إن الشخص الواحد قد يعذبه اللّه بالنار ثم يدخله الجنة كما نطقت بذلك الأحاديث الصحيحة، وهذا الشخص الذي له سيئات عذب بها، وله حسنات دخل بها الجنة، وله معصية وطاعة باتفاق، فإن هؤلاء الطوائف لم يتنازعوا في حكمه، لكن تنازعوا في اسمه‏.‏ فقالت المرجئة ـ جهميتهم وغير جهميتهم ـ هو مؤمن كامل الإيمان‏.‏ وأهل السنة والجماعة على أنه مؤمن ناقص الإيمان، ولولا ذلك لما عذب، كما أنه ناقص البر والتقوى باتفاق المسلمين، وهل يطلق عليه اسم مؤمن‏؟‏ هذا فيه القولان، والصحيح التفصيل‏.‏ فإذا سئل عن أحكام الدنيا كعتقه في الكفارة، قيل‏:‏ هو مؤمن وكذلك إذا سئل عن دخوله في خطاب المؤمنين‏.‏

وأما إذا سئل عن حكمه في الآخرة، قيل‏:‏ ليس هذا النوع من المؤمنين /الموعودين بالجنة، بل معه إيمان يمنعه الخلود في النار ويدخل به الجنة بعد أن يعذب في النار إن لم يغفر الله له ذنوبه؛ ولهذا قال من قال‏:‏ هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان‏.‏ والذين لا يسمونه مؤمناً من أهل السنة ومن المعتزلة يقولون‏:‏ اسم الفسوق ينافي اسم الإيمان لقوله‏:‏ ‏{‏بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏11‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏18‏]‏، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏سباب المسلم فسوق وقتاله كفر‏)‏‏.‏

وعلى هذا الأصل فبعض الناس يكون معه شعبة من شعب الكفر، ومعه إيمان أيضاً، وعلى هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية كثير من الذنوب كفراً، مع أن صاحبها قد يكون معه أكثر من مثقال ذرة من إيمان فلا يخلد في النار‏.‏ كقوله‏:‏‏(‏سباب المسلم فسوق وقتاله كفر‏)‏،وقوله‏:‏‏(‏لا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض‏)‏ وهذا مستفيض عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح من غير وجه، فإنه أمر في حجة الوداع أن ينادى به في الناس، فقد سمى من يضرب بعضهم رقاب بعض بلا حق كفاراً، وسمى هذا الفعل كفراً، ومع هذا فقد قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ‏}‏‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏، فبين أن هؤلاء لم يخرجوا من الإيمان بالكلية، ولكن فيهم ما هو كفر وهي هذه الخصلة، كما قال بعض الصحابة‏:‏ كفر دون كفر‏.‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏من قال لأخيه‏:‏ يا كافر، فقد باء بها أحدهما‏)‏ فقد سماه أخاه حين القول، وقد أخبر أن أحدهما باء بها، فلو خرج أحدهما عن الإسلام بالكلية لم يكن أخاه، بل فيه كفر‏.‏

/وكذلك قوله في الحديث الصحيح‏:‏‏(‏ليس من رجل ادَّعى لغير أبيه،وهو يَعْلَمُه،إلا كَفَر‏)‏، وفي حديث آخر‏:‏ ‏(‏كَفَر باللّه من تَبَرَّأ من نَسَبٍ وإن دَقَّ‏)‏، وكان من القرآن الذي نسخ لفظه‏:‏‏(‏لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم‏)‏، فإن حق الوالدين مقرون بحق اللّه في مثل قوله‏:‏‏{‏أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏14‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏23‏]‏، فالوالد أصله الذي منه خلق، والولد من كسبه‏.‏كما قال‏:‏‏{‏مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏2‏]‏، فالجحد لهما شعبة من شعب الكفر،فإنه جحد لما منه خلقه ربه، فقد جحد خلق الرب إياه،وقد كان في لغة من قبلنا يسمى الرب أباً، فكان فيه كفر باللّه من هذا الوجه، ولكن ليس هذا كمن جحد الخالق بالكلية، وسنتكلم إن شاء اللّه على سائر الأحاديث‏.‏

والمقصود هنا ذكر أصل جامع تنبني عليه معرفة النصوص، ورد ما تنازع فيه الناس إلى الكتاب والسنة،فإن الناس كثر نزاعهم في مواضع في مسمى الإيمان والإسلام لكثرة ذكرهما، وكثرة كلام الناس فيهما، والاسم كلما كثر التكلم فيه، فتكلم به مطلقاً ومقيداً بقيد،ومقيد بقيد آخر في موضع آخر‏.‏كان هذا سبباً لاشتباه بعض معناه، ثم كلما كثر سماعه كثر من يشتبه عليه ذلك‏.‏ومن أسباب ذلك أن يسمع بعض الناس بعض موارده ولا يسمع بعضه، ويكون ما سمعه مقيداً بقيد أوجبه اختصاصه بمعنى،فيظن معناه في سائر موارده كذلك، فمن اتبع علمه حتى عرف مواقع الاستعمال عامة، وعلم مأخذ/ الشبه أعطى كل ذي حق حقه، وعلم أن خير الكلام كلام اللّه، وأنه لا بيان أتم من بيانه، وأن ما أجمع عليه المسلمون من دينهم الذي يحتاجون إليه أضعاف أضعاف ما تنازعوا فيه‏.‏

فالمسلمون ـ سنيهم وبدعيهم ـ متفقون على وجوب الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر،ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة والصيام والحج،ومتفقون على أن من أطاع اللّه ورسوله فإنه يدخل الجنة،ولا يعذب، وعلى أن من لم يؤمن بأن محمداً رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إليه فهو كافر،وأمثال هذه الأمور التي هي أصول الدين وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام والإيمان، فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني بعض الأسماء أمر خفيف بالنسبة إلى ما اتفقوا عليه،مع أن المخالفين للحق البين من الكتاب والسنة هم عند جمهور الأمة معروفون بالبدعة، مشهود عليهم بالضلالة،ليس لهم في الأمة لسان صدق ولا قبول عام؛ كالخوارج والروافض والقدرية ونحوهم،وإنما تنازع أهل العلم والسنة في أمور دقيقة تخفى على أكثر الناس؛ولكن يجب رد ما تنازعوا فيه إلى اللّه ورسوله والرد إلى اللّه ورسوله في مسألة ‏[‏الإسلام،والإيمان‏]‏ يوجب أن كلا من الاسمين وإن كان مسماه واجباً لا يستحق أحد الجنة إلا بأن يكون مؤمناً،مسلماً، فالحق في ذلك ما بينه النبي في حديث جبريل،فجعل الدين وأهله ثلاث طبقات‏:‏أولها‏:‏الإسلام، وأوسطها‏:‏ الإيمان، وأعلاها‏:‏الإحسان، ومن وصل إلى العليا/فقد وصل إلى التي تليها، فالمحسن مؤمن والمؤمن مسلم؛ وأما المسلم فلا يجب أن يكون مؤمناً‏.‏

وهكذا جاء القرآن، فجعل الأمة على هذه الأصناف الثلاثة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏32‏]‏، فالمسلم الذي لم يقم بواجب الإيمان هو الظالم لنفسه، والمقتصد هو المؤمن المطلق الذي أدى الواجب وترك المحرم، والسابق بالخيرات هو المحسن الذي عبد الله كأنه يراه‏.‏ وقد ذكر اللّه ـ سبحانه ـ تقسيم الناس في المعاد إلى هذه الثلاثة في سورة ‏[‏الواقعة‏]‏ و ‏[‏المطففين‏]‏ و ‏[‏هل أتى‏]‏ وذكر الكفار ـ أيضاً ـ وأما هنا فجعل التقسيم للمصطفين من عباده‏.‏

وقال أبو سليمان الخطابي‏:‏ ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال‏:‏ الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالآية‏.‏ وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد‏.‏ فاحتج بقوله‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ َ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏36، 35‏]‏، قال الخطابي‏:‏ وقد تكلم رجلان من أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول واحد من هذين ورد الآخر منهما على المتقدم، وصنف عليه كتاباً يبلغ عدد أوراقه المائتين‏.‏ قال الخطابي‏:‏ والصحيح من ذلك‏:‏ أن يقيد الكلام في هذا، ولا يطلق؛ وذلك أن المسلم قد يكون مؤمناً في بعض الأحوال ولا يكون مؤمناً في بعضها، والمؤمن/ مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمناً، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الآيات، واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها‏.‏

قلت‏:‏الرجلان اللذان أشار إليهما الخطابي، أظن أحدهما ـ وهو السابق ـ محمد بن نصر، فإنه الذي علمته بسط الكلام في أن الإسلام والإيمان شيء واحد من أهل السنة والحديث، وما علمت لغيره قبله بسطاً في هذا‏.‏ والآخر الذي رد عليه أظنه‏.‏‏.‏ لكن لم أقف على رده، والذي اختاره الخطابي هو قول من فرق بينهما، كأبي جعفر، وحماد ابن زيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره، ولا علمت أحداً من المتقدمين خالف هؤلاء، فجعل نفس الإسلام نفس الإيمان؛ ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الذي قاله هؤلاء كما ذكره الخطابي‏.‏

وكذلك ذكر أبو القاسم التيمي الأصبهاني وابنه محمد شارح ‏[‏مسلم‏]‏ وغيرهما، أن المختار عند أهل السنة أنه لا يطلق على السارق والزاني اسم مؤمن، كما دل عليه النص، وقد ذكر الخطابي‏:‏ في ‏[‏شرح البخاري‏]‏ كلاماً يقتضي تلازمهما مع افتراق اسميهما، وذكره البغوي في ‏[‏شرح السنة‏]‏ فقال‏:‏ قد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس كذلك؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، /أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل الجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين؛ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم‏)‏ والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإسلام والإيمان جميعاً، يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏19‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏85‏]‏، فبين أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل‏.‏

قلت‏:‏ تفريق النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل وإن اقتضى أن الأعلى هو الإحسان، والإحسان يتضمن الإيمان، والإيمان يتضمن الإسلام، فلا يدل على العكس، ولو قدر أنه دل على التلازم فهو صريح بأن مسمى هذا ليس مسمى هذا، لكن التحقيق أن الدلالة تختلف بالتجريد والاقتران كما قد بيناه، ومن فهم هذا انحلت عنه إشكالات كثيرة في كثير من المواضع حاد عنها طوائف ـ ‏[‏مسألة الإيمان‏]‏ وغيرها ـ وما ذكره من أن الدين لا يكون في محل الرضى والقبول إلا بانضمام التصديق إلى العمل، يدل على أنه لابد مع العمل من الإيمان، فهذا يدل على وجوب الإيمان مطلقاً، لكن لا يدل على أن العمل الذي هو الدين، ليس اسمه إسلاماً، وإذا كان الإيمان شرطاً في قبوله لم يلزم أن يكون ملازما له، ولو كان ملازماً له لم يلزم أن يكون جزء مسماه‏.‏

/وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح‏:‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا اللّه‏)‏ إلى آخره، و‏(‏الإيمان أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله‏)‏ إلى آخره‏.‏ قال‏:‏ هذا بيان لأصل الإيمان، وهوالتصديق الباطن وبيان لأصل الإسلام، وهو الاستسلام والانقياد الظاهر‏.‏ وحكم الإسلام في الظاهر يثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الأربع لكونها أظهر شعائر الإسلام ومعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بحل قيد انقياده وانحلاله‏.‏

ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث، وسائر الطاعات لكونها ثمرات التصديق الباطن، الذي هو أصل الإيمان، مقومات ومتممات وحافظات له؛ ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، وإعطاء الخمس من المغنم؛ ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو ترك فريضة، لأن اسم الشيء الكامل يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهراً إلا بقيد؛ ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏‏.‏

 واسم الإسلام يتناول ـ أيضاً ـ ما هو ‏[‏أصل الإيمان‏]‏ وهو التصديق، ويتناول ‏[‏أصل الطاعات‏]‏ فإن ذلك كله استسلام‏.‏ قال‏:‏ فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان؛ وأن كل مؤمن مسلم، وليس / كل مسلم مؤمناً‏.‏ قال‏:‏ فهذا تحقيق واف بالتوفيق بين متفرقات النصوص الواردة في الإيمان والإسلام، التي طالما غلط فيها الخائضون،وما حققناه من ذلك موافق لمذاهب جماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم‏.‏

فيقال‏:‏ هذا الذي ذكره رحمه اللّه فيه من الموافقة لما قد بين من أقوال الأئمة، وما دل عليه الكتاب والسنة ما يظهر به أن الجمهور يقولون‏:‏ كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، وقوله‏:‏ إن الحديث ذكر فيه أصل الإيمان وأصل الإسلام، قد يورد عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب عن الإيمان والإسلام بما هو من جنس الجواب بالحد عن المحدود، فيكون ما ذكره مطابقاً لهما لا لأصلهما فقط، فالإيمان هو الإيمان بما ذكره باطناً وظاهراً، لكن ما ذكره من الإيمان تضمن الإسلام، كما أن الإحسان تضمن الإيمان‏.‏